قال الشيخ رحمه الله: (ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: (
ليس المخبر كالمعاين )، وبين ذلك، فقال: وموسى عليه السلام لما أخبر أن قومه عبدوا العجل لم يلق الألواح، فلما رآهم قد عبدوها ألقاها) فالله تبارك وتعالى أخبر موسى عليه السلام فقال: ((
فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ ))[طه:85]، فأخبره الله تعالى بعد أن أنزل عليه الألواح، وهذه الألواح هي كتاب الله:
التوراة الذي خطه الله له بيده -كما في الحديث المتفق عليه- عندما حاجه آدم عليه السلام به (
قال آدم: أنت موسى الذي كلمه الله، وكتب له التوراة بيده. فقال: (( وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ ))[الأعراف:145] )، وكان هذا في غاية التكريم لموسى عليه السلام، أي: أن ينزل عليه وأن يعطى هذه الألواح وهذا الفرقان، والله عز وجل اختار موسى عليه السلام واصطفاه لذلك، وأناب موسى عنه أخاه هارون ليكون قائماً مقامه في بني إسرائيل، وذهب موسى إلى ميقات ربه ليتلقى هذا الفرقان، وهذه المكرمة العظيمة من الله تبارك وتعالى، فأخبره الله تعالى بأنه قد فتن قومه من بعده، وأنهم قد اتبعوا هذا الدجال الأفاك
السامري الذي جعله الله تبارك وتعالى فتنة، والله يفتن الأمم بما يشاء، و
الدجال الأكبر يأتي في آخر الزمان، لكن في كل أمة وفي كل حين وفي كل عصر دجاجلة أقل، فهذا كان دجال بني إسرائيل الذي افتتنوا به، وبالتالي فماذا نتوقع أن يكون الأثر في نفس موسى عندما يرجع إلى قومه فيجدهم على خير مما كانوا عليه، فيبلغهم دين الله وكتابه، فيزدادوا إيماناً، ويظن أنهم في غاية الشوق عندما يرجع إليهم بالنور والوحي والهدى والخير؟إن ربه تبارك وتعالى عندما أخبره بذلك -وهو حق، وكلامه حق، وقوله حق- لا بد أن يألم، وأن يحزن، وأن يغضب، وأن يأسف، وأن يأسى على هذه الأمة العتية العصية العنيدة التي تأبى إلا الاعوجاج، وترفض الاستقامة في كل مرحلة، وهم في ظل حكم الفراعنة، وهم بعد التيه بعد الخروج، وهم في هذه الحالة دائماً، وهكذا قدر الله تعالى عليها، فلا بد أن يقع لديه هذا الأثر، ولذلك لما وصل ورآهم يعبدون العجل كيف كان وقع الأمر عليه؟ وماذا فعل؟ ألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره إليه.ولذلك اشتد عليه الغضب فجاء من جهتين: من جهة الألواح، وهي أعز ما لدى موسى عليه السلام، وهي من الأهمية بمكان، ومن جهة أخيه هارون عليه السلام الذي سأل الله سبحانه وتعالى أن يشدد به أزره، وأن يشركه في أمره، وأن يجعله وزيراً له ومبلغاً وداعية معه، وهو أفضل الأمة بعده، وهو الذي جاهد بني إسرائيل على ألا يعبدوا العجل، وكل ذلك لم يشفع، بل أخذ يجره موسى عليه السلام، وغضب عليه وألم، وكأنه يحمله المسئولية في هذا الذي قد وقع، وبالتالي فظهر أثر الغضب في الكتاب ومع الرسول الذي هو هارون، ولا شك أن الإنسان يألم عندما يرى الناس ينحرفون ويضلون، وخاصة إذا كان الهدى بين أيديهم والحق أمامهم، فيكون الألم أكثر وأعظم، والشاهد أنه كما قال صلى الله عليه وسلم: (
ليس الخبر كالمعاينة ) أو: (
ليس المخبر كالمعاين )، ثم ذكر قصة موسى عليه السلام، وأنه غضب وألقى الألواح لما عاين وليس لما أخبر؛ لأن النفس البشرية ركب فيها ذلك، وهكذا النفس البشرية عندما تعاين يكون الوقع والتأثير عليها أشد، وإن كان المخبر أوثق وأصدق، فالمخبر في هذه الحالة هو الله تبارك وتعالى، ولا شك في خبره، ولا شك أن موسى عليه السلام قد أيقن وصدق به تمام الصدق، لكنه لما عاين وأيقن ورأى وأبصر وسمع ازداد الأمر عنده، وازداد الغضب والألم والأسى لديه، ولو أن موسى عليه السلام فوجئ وما أخبر، فكيف يكون الغضب؟ إن الإنسان إذا بلِّغ بشيء يخف عليه إذا رآه، وإن كان أيضاً إذا رآه أشد مما كان في حالة الإخبار فقط، لكن من حكمة الله ولطفه، وهو يعلم عز وجل أن عبده ورسوله موسى عليه السلام شديد وقوي، والله سبحانه وتعالى جعله بهذه القوة ليواجه أعتى طواغيت الأرض، فهو قوي مع نفسه كما حصل في قصته مع الخضر، وقوي مع فرعون، وقوي مع من يستصرخه على عدوه، وقوي في مواقفه، فحصلت منه هذه القوة والشدة في هذا الموقف، مع أنه قد أخبر، فكيف لو لم يخبر؟! إن هذا يدل على أن الخبر ليس كالمعاينة، وليس المخبر كالمعاين كما في الحديث الذي رواه الإمام
أحمد رحمه الله و
الحاكم وسنده صحيح.يقول الشيخ: (وليس ذلك لشك موسى في خبر الله) أي: ليس إلقاؤه الألواح عندما رآهم يعبدون غير الله لشك في خبر الله، فلم يغضب عندما أخبر، يقول: (لكن المخبر وإن جزم بصدق المخبر فقد لا يتصور المخبر به في نفسه، كما يتصوره إذا عاينه).إذاً: الشاهد من قصة موسى عليه السلام: أن العبد إذا آمن وبلغه عن الله تبارك وتعالى خبر أو أمر أو نهى، فإنه وإن صدق به في قلبه، فهو ليس كمن امتثل ذلك الأمر والتزمه وعمل به، فإن ذلك يرى ما لا يرى الآخر، إذ إن كل إنسان من المؤمنين يصدق أو يؤمن أو ينقاد أو يلتزم لخبر الله يجد في نفسه من آثار العمل إذا التزم بصدق وإخلاص ويقين أعظم مما لو كان الإلتزام أقل، فكيف لو لم يعمل وإنما اكتفى بمجرد قول القلب؟ أي: أنه صدق بما جاء عن الله، أو ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن لم يعمل، فإن أثر ذلك عليه أقل بكثير، فإذا عمل، وعمل باستجماع لشروط العمل من الخشوع والإخلاص واليقين وغير ذلك؛ فإن الأثر يظهر أكبر فأكبر، وهذا أمر يجده الإنسان من نفسه، وهذا هو المثال الأول الذي ذكره الشارح رحمه الله.